فصل: قال ابن عادل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد ولطائف بلاغية:

قال أبو حيان:
وفي الآية ضروب من البيان والبديع، منها: تلوين الخطاب، ومعدوله في: {والوالدات يرضعن} فإنه خبر معناه الآمر على قول الأكثر، والتأكيد: بكاملين، والعدل عن رزق الأولاد إلى رزق أمهاتهنّ، لأنهنّ سبب توصل ذلك. والإيجاز في: {وعلى الوارث مثل ذلك} وتلوين الخطاب: في {وإن أردتم أن تسترضعوا} فإنه خطاب للآباء والأمهات ثم قال: {إذا سلمتم} وهو خطاب للآباء خاصة، والحذف في: {أن تسترضعوا} التقدير: مراضع للأولاد، وفي قوله: {إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف}. اهـ.
وقال أبو حيان:
وفي هذه الجمل الأربع من بلاغة المعنى ونصاعة اللفظ ما لا يخفى على من تعاطى علم البيان.
فالجملة الأولى: أبرزت في صورة المبتدأ والخبر وجعل الخبر فعلًا لأن الإرضاع مما يتجدد دائمًا، ثم أضيف الأولاد إلى الوالدات تنبيهًا على شفقتهن على الأولاد، وهزالهن وحثًا على الإرضاع، وقيد الإرضاع بمدة، وجعل ذلك لمن أراد الإتمام. وجاء الوالدات بلفظ العموم، وأضيف الأولاد لضمير العام ليعم، وجمع القلة إذا دخلته الألف واللام، أو أضيف إلى عام، عم. وقد تكلمنا على شيء من هذا في كتابنا المسمى بالتكميل في شرح التسهيل.
والجملة الثانية: أبرزت أيضًا في صورة المبتدأ والخبر، وجعل الخبر جارًا ومجرورًا بلفظ: على، الدالة على الاستعلاء المجازي والوجوب. فأكد بذلك مضمون الجملة، لأن من عادة المرء منع ما في يده من المال، وإهمال ما يجب عليه من الحقوق، فأكد ذلك. وقدم الخبر على سبيل الإعتناء به، وجاء الرزق مقدمًا على الكسوة، لأنه الأهم في بقاء الحياة، والمتكرر في كل يوم.
والجملة الثالثة: أبرزت في صورة الفعل ومرفوعه، وأتى بمرفوعه نكرة لأنه في سياق النفي، فيعم، ويتناول أولًا ما سيق لأجله: وهو حكم الوالدات في الإرضاع، وحكم المولود له في الرزق والكسوة اللذين للوالدات.
والجملة الرابعة: كالثالثة، لأنها في سياق النفي، فتعم أيضًا، وهي كالشرح للجملة قبلها، لأن النفس إذا لم تكلف إلاَّ طاقتها لا يقع ضرر لا للوالدة ولا للمولود له، ولذلك جاءت غير معطوفة على الجملة قبلها، فلا يناسب العطف بخلاف الجملتين الأوليين، فإن كل جملة منهما مغايرة للأخرى، ومخصصة بحكم ليس في الأخرى، ولما كان تكليف النفس فوق الطاقة، ومضارة أحد الزوجين الآخر مما يتجدد كل وقت، أتى بالجملتين فعليتين، أدخل عليهما حرف النفي الذي هو: لا، الموضوع للاستقبال غالبًا، وفي قراءة من جزم: {لا تضار}، أدخل حرف النهي المخلص المضارع للاستقبال، ونبه على محل الشفقة بقوله: بولدها، فأضاف الولد إليها، وبقوله: بولده، فأضاف الولد إليه، وذلك لطلب الاستعطاف والإشفاق. وقدم ذكر عدم مضارة الوالدة على عدم مضارة الوالد مراعاة للجملتين الأوليين، إذ بدئ فيهما بحكم الوالدات، وثنى بحكم الوالد في قوله: لا تضار، دلالة على أنه إذا اجتمع مؤنث ومذكر معطوفان، فالحكم في الفعل السابق عليهما للسابق منهما، تقول: قام زيد وهند وقامت هند وزيد، ويقوم زيد وهند، وتقوم هند وزيد، إلاَّ إن كان المؤنث مجازيًا بغير علامة تأنيث فيه فيحسن عدم إلحاق العلامة، كقوله تعالى: {وجُمع الشمس والقمر}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال ابن عادل:

{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)}.
وقوله: {حَوْلَيْنِ} منصُوبٌ على ظرفِ الزمانِ، ووصفهما بكاملين دفعًا للتجوُّز، إِذْ قَد يُطْلَقُ الحَوْلاَنِ على الناقصين شهرًا وشهرين، من قولهم أَقَامَ فلانٌ بمكان كذا حَوْلَين أو شهرين وإِنَّما أقامَ حَوْلًا وبعض الآخر، ومثله: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} [البقرة: 203] ومعلومٌ أنه يتعجَّل في يومٍ، وبعض اليوم الثَّاني، والحَولُ مِنْ حال الشَّيءُ يحولُ إذا انقلب، فالحَوْلُ مُنقلب من الوقْتِ الأَول إلى الثاني.
وسُمِّيت السنةُ حولًا؛ لتحوُّلها، والحَوْلُ أيضًا: الحَيْلُ، ويُقالُ: لا حول ولا قوةَ، ولا حَيْلَ وَلاَ قُوَّةَ.
قوله: {لِمَنْ أَرَادَ} في هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنه متعلقٌ بيُرْضِعْنَ، وتكونُ اللامُ للتعليل، ومَنْ وَاقِعَةٌ على الآباء، أي: الوالداتُ يُرْضِعْنَ لأجْلِ مَنْ أَرَادَ إِتْمام الرَّضاعةِ مِنَ الآباءِ، وهذا نظيرُ قولك: أَرْضَعَتْ فلانةٌ لفلانٍ ولدَه.
والثاني أنها للتَّبيين؛ فتتعلَّق بمحذوفٍ، وتكونُ هذه اللامُ كاللامِ في قوله تعالى: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23]، وفي قولهم: سُقْيًا لك.
فاللامُ بيانٌ للمدعوِّ له بالسَّقْي وللمُهَيَّت به، وذلك أَنَّه لمّا ذكر أنَّ الوالداتِ يُرْضِعْنَ أولاَدَهُنَّ حولين كاملين، بيَّنَ أنَّ ذلك الحُكم إنما هو لمَنْ أرادَ أن يتُمَّ الرَّضاعة؛ ومَنْ تحتمِلُ حينئذٍ أَنْ يُرادَ بها الوَالِدَاتُ فقط، أَوْ هُنَّ والوالدون معًا، كلُّ ذلك محتملٌ.
والثالث: أنَّ هذه اللامَ خبرٌ لمبتدإ محذوفٍ، فتتعلَّقُ بمحذوفٍ، والتقديرُ: ذلك الحُكمُ لِمَن أرادَ.
ومَنْ على هذا تكون للوالداتِ والوالدَيْنِ معًا.
قوله: {أَن يُتِمَّ الرضاعة} أَنْ وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ؛ مفعولًا بأراد، أي: لِمَنْ أَرادَ إِتْمَامَها.
والجمهورُ على يُتمَّ الرَّضَاعَةَ بالياء المضمومة من أَتَمَّ وإِعْمَالُ أنْ الناصبَة، ونصبِ الرَّضَاعةَ مفعولًا به، وفتح رائها.
وقرأ مجاهدٌ، والحسنُ، وابنُ محيصن، وأَبُو رجاء: {تَتِمَّ} بفتح التاءِ من تَمَّ، و{الرضَاعَةُ} بالرفعِ فاعلًا، وقرأ أبو حيوة، وابنُ أَبِي عبلة كذلك، إلا أنهما كَسَرا راءَ {الرَّضَاعَة}، وهي لغةٌ كالحَضارةِ، والحِضارة، والبَصْرِيُّونَ يقولون: فتحُ الرَّاءِ مع هاءِ التأنيث، وكسرُها مع عدمِ الهاء، والكُوفيُّون يزعمُونَ العكسَ.
وقرأ مجاهدٌ- ويُرْوى عن ابن عبَّاسٍ-: {أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ} برفعِ {يُتِمُّ} وفيها قولان:
أحدهما: قولُ البصريِّين: أنها أَنْ الناصبةُ، أُهْمِلت؛ حَمْلًا عَلَى مَا أُخْتِها؛ لاشتراكِهمَا في المَصْدرية، وأَنشدوا على ذلك قوله: مجزوء الكامل:
إِنِّي زَعِيمٌ يَا نُوَيْ ** قَةُ إِنْ أَمِنْتِ مِنَ الرَّزَاحِ

أَنْ تَهْبِطِينَ بِلاَدَ قَوْ ** مٍ يَرْتَعُونَ مِنَ الطِّلاَحِ

وقول الآخر: البسيط:
يَا صَاحِبَيَّ فَدَتْ نُفُوسَكُمَا ** وَحَيْثُمَا كُنْتُمَا لَقِّيتُمَا رَشَدَا

أَنْ تَقْرَآنِ عَلَى أَسْمَاءَ وَيْحَكُمَا ** مِنِّي السَّلاَمَ وَأَلاَّ تُشْعِرَا أَحَدَا

فَأَهْمَلَها، ولذلك ثَبَتَ نونُ الرفع، وأَبَوْا أَنْ يَجعلُوها المخفَّفة مِنَ الثقيلةِ لوجهين:
أحدهما: أنه لم يُفْصَل بينها وبين الجملة الفعلية بعدها.
والثاني: أَنَّ ما قبلها ليس بفعلِ علمٍ ويقينٍ.
القول الثاني: وهو قول الكوفيِّين أنها المخفَّفة من الثَّقيلة، وشذَّ وقوعها موقع الناصبة، كما شذَّ وقوع أنْ الناصبة موقعها في قوله: البسيط:
.... قَدْ عَلِمُوا ** أَلاَّ يَدَانِيَنَا فِي خَلْقِهِ أَحَدٌ

وقرأ مجاهدٌ: {الرَّضْعَة} بوزن القصعة. وعن ابن عباس أنّه قرأ أن يكمل الرضاعة. قوله: {وَعلَى المولود لَهُ} هذا الجارُّ خبرٌ مقدَّمٌ، والمبتدأ قوله: {رِزْقُهُنَّ}، وأَلْ في المولود موصولةٌ، ولَهُ قَائِمٌ مقام الفاعل للمولود، وهو عائد الموصول، تقديره: وعلى الذي ولد له رزقهنَّ، فحذف الفاعل، وهو الوالدات، والمفعول، وهو الأولاد، وأقيم هذا الجارُّ والمجرور مقام الفاعل.
وذكر بعض النَّاس أنه لا خلاف في إقامة الجارِّ والمجرور مقام الفاعل، إلاَّ السُّهيليَّ، فإنَّه منع من ذلك؛ وليس كما ذكر هذا القائل، فإنَّ البصريِّين أجازوا هذه المسألة مطلقًا، والكوفيُّون قالوا: إن كان حرف الجرِّ زائدًا جاز نحو: ما ضربَ من أحدٍ، وإن كان غير زائدٍ، لم يجز، ولا يجوز عندهم أن يكون الاسم المجرور في موضع رفعٍ باتفاقٍ بينهم. ثم اختلفوا بعد هذا الاتفاق في القائم مقام الفاعل.
فذهب الفرَّاء: إلى أنَّ حرف الجرِّ وحده في موضع رفعٍ، كما أنَّ يَقُومُ من زَيْدٌ يَقُومُ في موضع رفع.
وذهب الكسائيُّ، وهشام: إلى أنَّ مفعول الفعل ضميرٌ مستترٌ فيه، وهو ضميرٌ مبهمٌ من حيث أن يراد به ما يدلُّ عليه الفعل من مصدرٍ، وزمانٍ، ومكانٍ، ولم يدلَّ دليلٌ على أحدها.
وذهب بعضهم إلى أنَّ القائم مقام الفاعل ضمير المصدر، فإذا قلت: سِيرَ بزيدٍ فالتقدير: سِير هو، أي: السَّيْرُ؛ لأنَّ دلالة الفعل على مصدره قويةٌ، ووافقهم في هذا بعض البصريين.
قوله: {بالمعروف} يجوز أن يتعلَّق بكلِّ من قوله: {رزقُهنَّ} و{كِسْوَتُهنَّ} على أنَّ المسألة من باب الإعمال وهو على إعمال الثاني، إذ لو أعمل الأول، لأُضمر في الثاني، فكان يقال: وكسوتهنَّ به بالمعروف.
هذا إن أُريد بالرزق والكسوة، المصدران، وقد تقدَّم أنَّ الرزق يكون مصدرًا، وإن كان ابن الطَّراوة قد رَّد على الفارسيّ ذلك؛ في قوله: {مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السماوات والأرض شَيْئًا} [النحل: 73] كما سيأتي تحقيقه في النَّحل، إن شاء الله تعالى.
وإن أُريد بهما اسم المرزوق، والمكسوِّ كالطِّحن، والرِّعي، فلابد من حذف مضافٍ، تقديره: اتِّصال، أو دفع، أو ما أشبه ذلك، ممَّا يصحُّ به المعنى، ويكون {بالمعروف} متعلِّقًا بمحذوفٍ، على أنه حالٌ منهما.
وجعل أبو البقاء العامل في هذه الحال الاستقرار الذي تضمَّنه على.
والجمهور على {كِسْوَتهنَّ} بكسر الكاف، وقرأ طلحة بضمِّها، وهما لغتان في المصدر، واسم المكسوِّ وفعلها يتعدَّى لاثنين، وهما كمفعولي أَعْطَى في جواز حذفهما، أو حذف أحدهما؛ اختصارًا أو اقتصارًا، قيل: وقد يتعدَّى إلى واحدٍ؛ وأنشدوا: المتقارب:
وَأَرْكَبُ في الرَّوْعِ خَيْفَانَةٌ ** كَسَا وَجْهَهَا سَعَفٌ مُنْتَشِرْ

ضمَّنه معنى غطَّى، وفيه نظرٌ؛ لاحتمال أنَّه حذف أحد المفعولين؛ للدلالة عليه، أي: كَسَا وجهها غبار أو نحوه.

.فصل في أن {المولود لَهُ} هو الوالد:

و{المولود لَهُ} هو الوالد، وإنَّما عبَّر عنه بهذا الاسم لوجوه:
أحدها: قال الزَّمخشريُّ: والسَّبب فيه أن يعلم أنَّ الوالدات إنما ولدت الأولاد للآباء ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمَّهات؛ وأنشدوا للمأمون: البسيط:
وَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ ** مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلآبَاءِ أَبْنَاءُ

وثانيها: أنّه تنبيهٌ على أَنَّ الولد إنما يلتحق بالوالد؛ لكونه مولودًا على فراشه، على ما قاله عليه الصلاة والسلام: «الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» فكأنّه قال: إذا ولدت المرأة الولد لأجل الرَّجل وعلى فراشه، وجب عليه رعاية مصالحه، فنبه على أنَّ سبب النَّسب، والالتحاق محدودٌ بهذا القدر.
وثالثها: ذكر الوالد بلفظ: المَوْلُودِ لَهُ تنبيهًا على أنَّ نفقته عائدةٌ إليه، فيلزمه رعاية مصالحه كما قيل: كلُّه لك، وكلُّه عليك.
قوله: {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ} الجمهور على تُكَلَّفُ مبنيًا للمفعول، نفسٌ قائم مقام الفاعل، وهو الله تعالى، {وُسْعَهَا} مفعول ثانٍ، وهو استثناءٌ مفرغٌ؛ لأنَّ كَلَّفَ يتعدَّى لاثنين.
قال أبو البقاء: ولو رُفِعَ الوُسْعُ هنا، لم يَجُزْ؛ لأنه ليس ببدَلٍ.
وقرأ أبو جراء: {لاَ تَكَلَّفُ نَفْسٌ} بفتح التَّاء، والأصل: {تَتَكَلَّفُ} فحذفت إحدى التاءين؛ تخفيفًا: إمَّا الأولى، أو الثانية على خلافٍ في ذلك تقدَّم، فتكون {نَفْسٌ} فاعلًا، و{وُسْعَها} مفعولٌ به، استثناء مفرَّغًا أيضًا.
وروى أبو الأشهب عن أبي رجاء أيضًا: {لا يُكَلِّفُ نَفْسًا} بإسناد الفعل إلى ضمير الله تعالى، فتكون {نَفْسًا} و{وُسْعَها} مفعولين.
والتكليفُ: الإلزام، وأصله من الكلف، وهو الأثر من السَّواد في الوجه؛ قال: البسيط:
يَهْدِي بِهَا أَكْلَفُ الخَدَّيْنِ مُخْتَبَرٌ ** مِنَ الْجِمَالِ كَثِيرُ اللَّحْمِ عَيْثُومُ

فمعنى تَكَلَّفَ الأَمْرَ، أي: اجتهد في إظهار أثره.
وفلانٌ كَلِفٌ بكذا: أي مُغْرًى به.
والوُسْعُ هنا ما يسع الإنسان فيطيق أخذه من سعة الملك أي الغرض، ولو ضاق لعجز عنه، فالسَّعة بمنزلة القدرة، ولهذا قيل: الوسع فوق الطَّاقة، والمراد منه: أنَّ أبا الصّبي لا يتكلّف الإنفاق عليه، وعلى أُمِّه، إلاَّ ما تتسع له قدرته، لأنَّ الوسع ما تتَّسع له القدرة، ولا يبلغ استغراق القدرة؛ وهو نظير قوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ الله لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7].
وقوله: {لاَ تُضَآرَّ} ابن كثير، وأبو عمرو: {لا تُضَارُّ} برفع الراء مشددةً، وتوجيهها واضح، لأنه فعلٌ مضارعٌ لم يدخل عليه ناصبٌ ولا جازمٌ فرفع، وهذه القراءة مناسبةٌ لما قبلها، من حيث إنه عطف جملة خبريّةٌ على خبرية مثلها من حيث اللفظ وإلاَّ فالأولى خبريةٌ لفظًا ومعنًى، وهذه خبريةٌ لفظًا نهييَّةٌ معنًى ويدل عليه قراءة الباقين كما سيأتي.
قال الكسائيُّ والفراء: هو نسقٌ على قوله: {لاَ يُكَلِّفُ}.
قال عليبن عيسى: هذا غلطٌ؛ لأنَّ النَّسق بلا إنَّما هو إخراج على إخراج الثَّاني مما دخل فيه الأوَّل نحو: ضربتُ زيدًا لا عمرًا فأمّا أن يقال: يقوم زيدٌ لا يقعد عمرو، فهو غير جائزٍ على النِّسق، بل الصواب أنَّه مرفوعٌ على الاستئناف في النَّهي كما يقال: لا تضرب زيدًا لا تقتل عمرًا.
وقرأ باقي السَّبعة: بفتح الراء مشدّدةً، وتوجيهها أنَّ {لا} ناهيةٌ، فهي جازمةٌ، فسكنت الراء الأخيرة للجزم، وقبلها راء ساكنةٌ مدغمةٌ فيها، فالتقى ساكنان؛ فحرَّكنا الثانية لا الأولى، وإن كان الأصل الإدغام، وكانت الحركة فتحةًن وإن كان أصل التقاء الساكنين الكسر؛ لأجل الألف؛ إذ هي أُخت الفتحة، ولذلك لمَّا رخَّمت العرب إِسْحَارّ وهو اسم نباتٍ، قالوا: إِسحارَ بفتح الراء خفيفةً، لأنهم لمَّا حذفوا الراء الأخيرة، بقيت الراء الأولى ساكنةً، والألف قبلها ساكنةٌ؛ فالتقى ساكنان، والألف لا تقبل الحركة؛ فحرَّكوا الثاني وهو الراء، وكانت الحركة فتحةً؛ لأجل الألف قبلها ساكنة، ولم يكسروا وإن كان الأصل، لما ذكرنا من مراعاة الألف.
وقرأ الحسن بكسرها مشدَّدةً، على أصل التقاء السَّاكنين، ولم يراع الألف.
وقرأ أبو جعفرٍ بسكونها مشدَّدةً، كأنه أجرى الوصل مجرى الوقف، فسكَّن، وروي عنه وعن ابن هرمز: بسكونها مخففة، وتحتمل هذه وجهين:
أحدهما: أن يكون من ضارَ يَضِيرُ، ويكون السكون لإجراء الوصل مجرى الوقف.
والثاني: أن يكون من ضارَّ يُضَارُّ بتشديد الراء، وإنما استثقل تكرير حرف هو مكرر في نفسه؛ فحذف الثاني منهما، وجمع بين الساكنين- أعني الألف والراء- إمَّا إجراءً للوصل مجرى الوقف، وإمَّا لأنَّ الألف قائمةٌ مقام الحركة، لكونها حرف مدٍّ.
وزعم الزمخشريُّ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ إنما اخْتَلَسَ الضَّمة، فتَوَهَّم الراوي أنه سَكَّنَ، وليس كذلك انتهى.
وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك عند {يَأْمُرُكُمْ} [البقرة: 67] ونحوه.
ثم قراءة تسكين الرَّاء: تحتمل أن تكون من رفعٍ، فتكون كقراءة ابن كثير، وأبي عمرو، ويحتمل أن تكون من فتح، فتكون كقراءة الباقين، والأول أولى؛ إذ التسكين من الضمة أكثر من التسكين من الفتحة؛ لخفَّتها.
وقرأ ابن عبَّاس: بكسر الراء الأولى، والفكِّ، وروي عن عمر بن الخطاب: {لا تُضَارَرْ} بفتح الرَّاء الأولى، والفكِّ؛ وهذه لغة الحجاز، أعني: فكَّ المثلين فيما سكن ثانيهما للجزم أو للوقف، نحو: لم نمرر، وامرُرْ، وبنو تميم يدغمون، والتنزيل جاء باللغتين نحو: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} [المائدة: 54] في المائدة، قرئ في السَّبع بالوجهين، وسيأتي بيانه واضحًا.
ثمَّ قراءة من شدَّد الراء: مضمومةً أو مفتوحةً، أو مكسورةً، أو مسكَّنةً، أو خفَّفها تحتمل أن تكون الراء الأولى مفتوحة، فيكون الفعل مبنيًا للمفعول، وتكون وَالِدَة مفعولًا لم يسمَّ فاعله، وحذف الفاعل؛ للعلم به، ويؤيده قراءة عمر رضي الله عنه.
ويكون معنى الآية: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} فينزع الولد منها إلى غيرها بعد أن رضيت بإرضاعه {وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} أي: لا تلقيه المرأة إلى أبيه بعدما ألفها؛ تُضَارُّهُ بذلك.
وقيل: معناه لا تضارُّ والدةٌ؛ فتكره على إرضاعه، إذا كرهت إرضاعه، وقبل الصّبيُّ من غيرها؛ لأنَّ ذلك ليس بواجبٍ عليها، ولا مولودٌ له بولده فيحتمل أن يعطي الأمَّ أكثر مما يجب لها، إذا لم يرتضع الولد من غيرها.
وأن تكون مكسورةٌ، فيكون الفعل مبنيًا للفاعل، وتكون والدة حينئذٍ فاعلًا به، ويؤيده قراءة ابن عباسٍ.
وفي المفعول على هذا الاحتمال ثلاثة أوجه:
أحدها- وهو الظاهر- أنه محذوف تقديره: لا تُضَارِرْ والدةٌ زوجَها، بسبب ولدها بما لا يَقْدِرُ عليه مِنْ رِزْقٍ وكُسْوةٍ ونحو ذلك، ولا يُضَارِرْ مَوْلُود له زوجته بسبب ولده بما وجب لها من رزق وكسوةٍ، فالباء للسببية.
والثاني:- قاله الزمخشريُّ- أن يكون {تُضارَّ} بمعنى تضرُّ، وأن تكون الباء من صلته أي: لا تضرُّ والدةٌ بولدها، فلا تسيءُ غداءه، وتعهُّده، ولا يضرُّ الوالد به بأن ينزعه منها بدما ألفها انتهى.
ويعني بقوله الباءُ مِنْ صِلتِه، أي: تكون متعلقةً به، ومعدِّيةً له إلى المفعول، كهي في ذَهَبْتُ بزيدٍ ويكون ضارَّ بمعنى أضرَّ، فاعل بمعنى أفعل، ومثله: ضاعفتُ الحسابَ وأضعفته، وباعدته وأبعدته، فعلى هذا، نفس المجرور بهذه الباء، هو المفعول به في المعنى، والباء على هذا للتَّعدية، كما نظَّرنا بِ ذَهَبْتُ بزيدٍ، فإنه بمعنى أذهبته.
والثالث: أنَّ الباء مزيدةٌ، وأنَّ ضَارَّ بمعنى ضرَّ، فيكون فَاعَلَ بمعنى فَعَل المجرّد، والتقدير: لا تضرُّ والدةٌ ولدها بسوء غذائه وعدم تعهُّده، ولا يضرُّ والدٌ ولده بانتزاعه من أمه بعدما ألفها، ونحو ذلك.
وقد جاء فاعل بمعنى فعل المجرَّد نحو: واعدته، ووعدته، وجاوزته وجزته، إلاَّ أنَّ الكثير في فاعل الدَّلالة على المشاركة بين مرفوعه ومنصوبه، ولذلك كان مرفوعه منصوبًا في التَّقدير، ومنصوبه مرفوعًا في التقدير، فمن ثمَّ كان التوجيه الأول أرجح من توجيه الزمخشريُّ، وما بعده، وتوجيه الزمخشريِّ أوجه ممَّا بعده.
فإن قيل: لم قال تُضَارّ والفعل واحد؟
قلنا: معناه لا يضار الأمُّ والأب بألاَّ ترضع الأم، أو يمنعها الأب وينزعه منها، أو يكون معناه أنّ كلَّ واحدٍ يقصد بإضرار الولد إضرار الآخر؛ فيكون في الحقيقة مضارَّة.
قوله: {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك} هذه جملةٌ من مبتدأ وخبر، قدَّم الخبر؛ اهتمامًا، ولا يخفى ما فيها، وهي معطوفة على قوله: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ} وما بينهما اعتراضٌ؛ لأنه كالتَّفسير لقوله: {بِالْمَعْرُوفِ} كما تقدَّم التنبيه عليه.
والألف واللاَّم في {الوَارِثِ} بدلٌ من الضَّمير عند من يرى ذلك، ثم اختلفوا في ذلك الضَّمير هل يعود على المولود له، وهو الأب، فكأنه قيل: وعلى وارثه، أي: وارث المولود له، أو يعود على الولد نفسه، أي: وارث الولد؟ وهذا على حسب اختلافهم في الوارث.
وقرأ يحيى بن يعمر: الوَرَثَةِ بلفظ الجمع، والمشار إليه بقوله: {مثلُ ذلك} إلى الواجب من الرزق والكسوة، وهذا أحسن من قول من يقول: أشير به إلى الرزق والكسوة. وأشير بما للواحد للاثنين؛ كقوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68].
وإنما كان أحسن؛ لأنه لا يحوج إلى تأويلٍ، وقيل: المشار إليه هو عدم المضارَّة، قاله الشعبيُّ، والزهري، والضحاك، وقيل: منهما وهو قول الجمهور.
وقيل: أجرة المثل.
قوله تعالى: {عَن تَرَاضٍ} فيه وجهان:
أظهرهما: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ إذ هو صفةٌ لفِصَالًا فهو في محلِّ نصبٍ، أي: فصالًا كائنًا عن تَرَاضٍ، وقدَّره الزمخشريُّ: صادرًا عن تَرَاضٍ، وفيه نظرٌ من حيث كونه كونًا مقيَّدًا.
والثاني: أنه متعلقٌ ب {أَرَادَا}، قاله أبو البقاء، ولا معنى له إلاَّ بتكلّف.
والفصال، والفصل: الفطام، وأصله التفريق، فهو تفريقٌ بين الصبيِّ والثَّدي، ومنه سمِّي الفصيل؛ لأنَّه مفصولٌ عن أمه.
و{عَنْ} للمجاوزة مجازًا؛ لأنَّ التَّراضي معنًى، لا عينٌ.
و{تَرَاضٍ} مصدر تفاعل، فعينه مضمومةٌ، وأصله: تفاعلٌ تراضوٌ، ففعل فيه ما فعل بأدْلٍ جمع دلوٍ، من قلب الوالو ياءً، والضمة قلبها كسرةً، إذ لا يوجد في الأسماء المعربة واوٌ قبلها ضمةٌ لغير الجمع إلا ويفعل بها ذلك تخفيفًا.
قوله تعالى: {مِّنْهُمَا} في محلِّ جرٍّ صفةً ل {تَرَاضٍ}، فيتعلَّق بمحذوفٍ، أي: تَرَاضٍ كائنٍ أو صادرٍ منهما، ومِنْ لابتداء الغاية.
وقوله: {وَتَشَاوُرٍ} حذفت مِنْهُمَا لدلالة ما قبلها عليها، والتقدير: وتشاور منهما، ويحتمل أن يكون التَّشاور من أحدهما، مع غير الآخر؛ لتتفق الآراء منهما، ومن غيرهما على المصلحة.
قوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} الفاء جواب الشَّرط، وقد تقدَّم نظير هذه الجملة، ولابد قبل هذا الجواب من جملةٍ قد حذفت؛ ليصحَّ المعنى بذلك، تقديره: ففصلاه أو فعلا ما تراضيا عليه، فلا جناح عليهما في الفصال، أو في الفصل.